إن المغرب، الذي عرف على غرار دول عربية أخرى حركة اجتماعية، تميز عنها من حيث الظروف الذي اندلعت فيها. فإلى جانب الحركة الشبيبية 20 فبراير، عرف المغرب تراكمات سابقة في مجالات مُتعددة وأساسا منها التعددية الحزبية والتقدم النسبي لحقوق الإنسان. ومما أعطى للحراك في المغرب وضعية مُتميزة فتح أوراش إصلاحية كبرى قصد تسوية ملفات الماضي من قبيل حكومة التوافق، وتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، والأمازيغية والجهوية والصحافة “المستقلة” والانفتاح الإعلامي… ولذلك كان من الطبيعي جدا أن تتم الاستجابة للمطالب المطروحة بالسرعة اللازمة.
لقد كان لحركة 20 فبراير دور أساسي في تسريع عملية الإصلاح الدستوري الشامل، خاصة وأن لائحة مطالبها كانت واضحة ومضبوطة على عكس الحركات الاحتجاجية في جول عربية أخرى كان همها هو الإطاحة بالنظام دون تصور للبديل.
وبتفحص كل الشعارات والمطالب المرفوعة خلال الحراك الاجتماعي، سنُلاحظ أن الخطاب الملكي ليوم 9 مارس أجاب عن جلها، بل يُمكن القول أن الحراك الاجتماعي سرعان ما خَفَت نتيجة سقف الإصلاحات الواردة في هذا الخطاب.
ثانيا: حول خطاب 9 مارس
إن التفاعل الملكي مع مطالب حركة 20 فبراير جاء سريعا باعتبار أن الفترة الفاصلة ما بين 20 فبراير و9 مارس لا تتعدى 17 يوما. وقد كان للتأصيل النظري الوارد في الخطاب دور في توضيح التصور الملكي للمسلسل الإصلاحي، خاصة عند الحديث عن أسلوب التدرج في التطور الديمقراطي الذي أهل المغرب للشروع في تكريسه دستوريا.
ودون تفصيل في المرتكزات السبع التي أعلن عنها الملك كأساس للمراجعة الدستورية الشاملة، يُمكن القول على أن الأمر يتعلق بأسس تضع الحد الأدنى لما كان الملك ينتظره وليس الحد الأقصى كما يتم الترويج له. فالحديث عن الهوية، ودولة الحق والمؤسسات، والارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وتوطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، وتقوية آليات تخليق الحياة العامة، ودسترة هيئات الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان، وحماية الحريات؛ كانت أساسا لنقاش مُجتمعي موسع مكن من البحث عن الإصلاحات المنشودة في حديها الأدنى والأقصى.
لقد شكل خطاب 9 مارس 2011 في نفس الوقت تجاوبا مع مطالب حركة شباب 20 فبراير 2011، واستكمالا للمطالب الحزبية بخصوص الإصلاحات الدستورية والسياسية التي أثيرت على إثر ما سُمي بالخروج عن “المنهجية الديمقراطية”.
ثالثا: الخطوط العامة لدستور 2011
يُمكن القول إجمالا أن دستور 2011 يُعد في جوهره ميثاقا سياسيا من حيث مضمونه، لأنه وضع قواعد جديدة لتنظيم السلطة مع إعادة توزيعها بشكل أكثر تقدما مما كان عليه الأمر في التجارب الدستورية السابقة. ولعل أهم ما ينبغي الإشارة إليه هو عقلنة تنظيم السلطات والعلاقات فيما بينها.
وشخصيا، أعتبر أن ما يتم الترويج له بخصوص احتفاظ الملك بسلطات “واسعة” مجرد استمرار لخلط في أذهان البعض فيما يتعلق بالتمييز بين الصلاحيات والاختصاصات. فالفصل 19 السابق، ومن خلاله الفصلين 41 و42 حاليا، يدخل في مجال تحديد الاختصاصات وليس الصلاحيات. ومن خلال تصفح الوثيقة الدستورية يُمكن أن نجد الجواب في السؤال التالي: “ما هي الصلاحيات التي يُمارسها الملك ولا يُمارسها رؤساء الدول الأخرى في مختلف الأنظمة الدستورية؟”.
أظن أن الجواب واضح، وإذا قمنا بعزل الصلاحيات التي يُمارسها رؤساء الدول (تعيين رئيس الحكومة، حق العفو، حل البرلمان، … وأضفنا إليها صلاحيات الملك التي يتمتع بها دستوريا منذ دستور 1962 ولم يُمارسها لحد الآن (حل البرلمان، طلب القراءة الثانية…)، فإننا سنجد أن دستور 2011 كان مُوفقا في إعادة تنظيم وتوزيع السلطات.
أما على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإنه تم تمكينهما من كل وسائل العمل المتعارف عليها، وأن مسألة ممارستها رهينة بقدرة أعضاءها وليس بالنص الدستوري، فالتجربة مثلا أثبتت أن الأستاذ عبد الرحمان يوسفي كان يعمل كرئيس حكومة في زمن كان الدستور يتحدث فقط عن وزير أول.
رابعا: حول الفصل 47
رغم أن انتقادات كثيرة طالت الفصل 47 من الدستور، فإنه ينبغي الإشارة إلى أن صياغته تمت بطريقة مُحكمة تُراعي كل الاحتمالات المستقبلية والصعوبات التي يُمكن أن تطرأ على عملية تعيين الحكومة. لنلاحظ أولا أن الفصل 47 ينص في فقرته الأولى على ما يلي:
“يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها”.
إن الفصل يضع أسس عديدة للإحاطة بعملية التعيين:
أولا، إن الأمر يتعلق بتعيين “من الحزب السياسي”، وهو تعيين يُعطي للملك سلطة تقديرية في اختيار الشخص المناسب، والذي قد لا يكون بالضرورة الأمين العام للحزب، وهذه الإمكانية هي التي تم استعمالها على إثر “البلوكاج” الناتج عن عدم تمكن عبد الإله بنكيران من تشكيل حكومته؛
ثانيا، ينبغي أن تتم قراءة الفصل مع استحضار أنه لو كان المقصود هو الاقتصار على الحزب الفائز فقط لكانت الصياغة كما يلي “يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب” دون أية إضافة، حيث أنه في هذه الحالة يظل الاختيار مُنحصرا في هذا الحزب لوحده، وهو ما يُمكن أن يُؤدي إلى صعوبات عند التطبيق لا يُمكن تجاوزها إلا بإعادة الانتخابات رغم أن ذلك سيُشكل “ظلما” في حق الحزب الفائز لأنه ليس لديه أي ضمانات للفوز مرة ثانية. ولهذا إنه تمت إضافة تعبير “وعلى أساس نتائجها”، وهو ما يُعطي للفصل معنى آخر.
ففي الحالة الأولى، فإن التعيين يكون على أساس أن يُقدم للملك رسميا اسم الحزب الفائز ليُعيين من بينه رئيسا للحكومة، أما في الحالة الثانية فتُقدم للملك النتائج الكاملة مُرتبة حسب عدد المقاعد المُحَصل عليها، ولذلك فإنه في حالة عجز الحزب الفائز عن تشكيل الحكومة يُمكنه الانتقال للحزب المرتب في المرتبة الثانية.
والخلاصة هنا، هي أن هذا المقتضى الدستوري، سليم من حيث الصياغة، ويتضمن حلا لأية صعوبات مُحتملة، فلا يُعقل أن أعضاء اللجنة الاستشارية الملكية لمراجعة الدستور، وإلى جانبها الآلية السياسية، وبناء على عشرات المذكرات ونقاش عمومي واسع ألا يتم استحضار هذه الصعوبة.
خامسا: حول عملية تنفيذ الدستور وتطبيقه
تتطلب عملية تجسيد الدستور وتحويل مقتضياته من نصوص إلى ممارسة سياسية، التمييز ما بين الصلاحيات التي تهم استكماله بإصدار النصوص اللازمة، عن ممارسة الصلاحيات.
ففيما يخص إصدار النصوص، يُمكن القول على أن الأمر يتوقف على الأداء الحكومي والبرلماني. ورغم المجهود الذي تم بذله، فإن بعض القوانين التنظيمية لا زالت لم تصدر لحد الآن، بل أن أحدها يُشكل تحديا كبيرا ما دام أنه تم التنصيص عليه منذ دستور 1962، ويتعلق الأمر بتنظيم ممارسة حق الإضراب، والأكثر من هذا أن الحكومة عجزت عن ملاءمة القانون التنظيمي للدفع بعدم دستورية القوانين مع قرار المحكمة الدستوري رغم أنه قد مرت لحد الآن سنة كاملة على قرارها. أما على صعيد النصوص القانونية العادية، فإن هذا الورش لا زال مُتأخرا نتيجة عجز واضح يتحمل فيه المسؤولية كل من الحكومة والبرلمان.
لقد مضى ذلك الزمن الدستوري الذي كان فيه بعض الفاعلين والأكاديميين يُنسِبون كل شيء إلى عدم انتظام عقد المجلس الوزارية، فالنصوص التشريعية العادية في جلها أصبحت تُحال مباشرة من المجلس الحكومي إلى البرلمان، فما الذي يمنع من تسريع عملية التشريع؟
إن الدستور مثلا قد أكد على أن المملكة المغربية، تؤكد وتلتزم بـ “جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة”، لكن لحد الآن لم نسمع عن أي ورش لتنفيذ هذا الالتزام، كما أن العديد من المؤسسات الدستورية لا زالت دون إطار قانوني متلاءم مع دستور 2011، كما أن بعض الوعود التي أعطيت منذ الحكومة السابقة بخصوص المسطرة الجنائية والمسطرة المدنية لا زالت لم تر النور.
أما على صعيد الأداء البرلماني، فيكفي فقط الاطلاع على قرار المحكمة الدستورية بخصوص التنظيم القضائي، والذي قضى بأن “مسطرة إقرار التعديلات المُدخلة من قبل مجلس النواب، في القراءة الثانية، على المواد 7 و23 و48 و52 و71 و96 و103 و107 من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي، غير مطابقة للدستور”، مما يدل على عدم التمكن من مسايرة قرارات المحكمة الدستورية التي سبق لها في قرار سابق أن وضحت هذه المسطرة، كما أن الاطلاع على الحصيلة التشريعية، وسحب ما يتعلق بالمعاهدات والاتفاقيات والتعديلات الجزئية، سنجد أن الحصيلة لا ترقى لمستوى دستور 2011.
سادسا: هل هناك من حاجة لتعديلات دستورية؟
لا أعتقد أنه حان وقت الحديث عن مراجعة الدستور ما دام أنه ليس هناك لحد الآن ما يجعل تطبيقه عسيرا، وأن أقصى ما يُمكن الحديث عنه هو “تنقيح الدستور” فقط.
إن مراجعة الدستور، كما سنرى، تتطلب اعتماد مسطرة الاستفتاء الشعبي، بينما تعديل بعض المقتضيات يُمكن أن يتم عبر البرلمان فقط.
لقد ميز الدستور في الباب الثالث عشر بين حالتين:
الحالة الأولى تهم مراجعة الدستور عبر الاستفتاء الشعبي، حيث أن الفصول 172، 173، و174، وضعت مسطرة تهم المبادرة قصد مراجعة الدستور من قبل الملك أو رئيس الحكومة أو مجلس النواب أو مجلس المستشارين، وفق ما يلي:
– بالنسبة للملك: له أن يعرض مباشرة على الاستفتاء، المشروع الذي اتخذ المبادرة بشأنه (الفصل 172)؛
– أما بالنسبة لمبادرة أحد مجلسي البرلمان، أو مقترح رئيس الحكومة، فتم تحديد مسطرة إقرارهما في الفصل 173.
– وفي كل الأحوال فإن مراجعة الدستور تتم وفق الفصل 174 من خلال عرض مشاريع ومقترحات المراجعة، بمقتضى ظهير، على الشعب قصد الاستفتاء.
الحالة الثانية: تهم مراجعة بعض مقتضيات الدستور، وهي مُؤطرة بالفصل 174، حيث أنه “للملك، بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية، أن يعرض بظهير، على البرلمان، مشروع مراجعة بعض مقتضيات الدستور: وفي هذه الحالة “يصادق البرلمان، المنعقد، بدعوة من الملك، في اجتماع مشترك لمجلسيه، على مشروع هذه المراجعة، بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم” وذلك تحت مراقبة المحكمة الدستورية لصحة إجراءات هذه المراجعة، وإعلان نتيجتها.
وواضح من خلال هذه المقتضيات، أن الأمر يتعلق في الحالة الأولى بمراجعة تهم مقتضيات جوهرية في الدستور وبالتالي تتطلب لزوما إقرارها بالاستفتاء الشعبي، أما في الحالة الثانية فيتعلق الأمر بما يُمكن أن نُسميه “تنقيح الدستور” أي مراجعة لبعض المقتضيات غير الجوهرية.
لذلك، فإنني أتساءل بدوري، ما الذي يجعل تطبيق الدستور عسيرا حتى نبحث عن مراجعة دستورية؟
سابعا: حول بعض تحديات تطبيق دستور 2011
رغم مرور 8 سنوات على صدور دستور 2011، فإنه لا زالت أمامنا أوراش كثيرة تنتظر الشروع في تنفيذها. ورغم تعدد التحديات التي تطرحها هذه الأوراش، فإنه يُمكن الوقوف على بعض منها مما نعتبره أساسيا.
التحدي الأول، يتمثل في تحديد مجال ونطاق السياسات العمومية، والتي هي من صلاحيات مجلس الحكومة (الفصل 92 من الدستور)، وقابلة للتقييم من قبل البرلمان (الفصل 70)، إلا أنها أيضا مجال لإبداء الرأي من قبل بعض المؤسسات والهيئات الدستورية، والتي نذكر منها كلا من مجلس الجالية المغربية بالخارج (الفصل 163)، والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي (الفصل 168)، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة (الفصل 169)، إضافة لمؤسسات أخرى (نذكر منها خاصة: المجلس الأعلى للحسابات، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي).
ولذلك، فإنه لا زلنا خاصة في حاجة لتحديد هذه العلاقات بين طرفين غير متوازنين:
فمن جهة أولى هناك الحكومة التي تخضع للرقابة بمختلف أنواعها، وتتحمل المسؤولية السياسية التي يُمكن أن تصل حد إقالتها؛
ومن جهة ثانية، هناك هيئات مُستقلة، تتدخل بشكل أو بآخر في السياسات العمومية دون أن تخضع للرقابة أو تتحمل أية مسؤولية سياسية.
وإلى جانب هذا، يلزم المزيد من الاجتهاد لتمييز “السياسة العمومية” عن “السياسة العامة”، سواء منها “السياسة العامة للدولة” التي يتداول فيها مجلس الحكومة، ويتم عرضها على المجلس الوزاري (الفصل 92)، أو “السياسة العامة” الخاضعة للرقابة البرلمانية من خلال الأسئلة الموجهة لرئيس الحكومة (الفصل 100)، والتاي يُمكن أيضا أن تكون أساسا لإمكانية مواصلة الحكومة لتحمل المسؤولية بتصويت من مجلس النواب، يمنح الثقة بشأن تصريح يدلي به رئيس الحكومة في “موضوع السياسة العامة” (الفصل 103).
أما التحدي الثاني، فيتمثل في تفعيل الآليات المسندة سواء للمواطنات والمواطنين أو لجمعيات المجتمع المدني. فالأمر وفق الصياغة الدستورية دقيق للغاية. إن الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام والمنظمات غير الحكومية، تساهم ليس فقط “في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية” ولكن أيضا “في تفعيلها وتقييمها” (الفصل 12)، بل إن الفصل 13 يطرح إشكالا أكبر من خلال التنصيص على أن “إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها”. إن الإشارة إلى التفعيل والتنفيذ يتطلب تنظيما إداريا مُحكما، وهو بدوره ورش واسع ومُتشعب، وهذا إضافة لنظام الملتمسات (الفصل 14) والعرائض (الفصل 15).
التحدي الثالث، يتعلق بممارسة الصلاحيات، من قبيل صلاحية البرلمان في تقييم السياسات العمومية التي ينبغي أن تكون شاملة وعميقة وليس مجرد تقييم تقني لمشاريع جزئية أو قطاعية، ومدى قدرة مختلف مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية في التفاعل الإيجابي مع مجال السياسة العامة للدولة والسياسات العمومية بما يُطور عملها، … إلى غير ذلك مما يتطلبه التفعيل الكامل لمقتضيات الدستور.