ملاحظات حول قرار المحكمة الدستورية رقم 89.19 بشأن القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي
نشر الباحث محمد نويري في منتدى القضاء الدستوري المغربي و المقارن:
أصدرت المحكمة الدستورية، بتاريخ 8 فبراير 2019، قرارها رقم 89.19 بشأن الرقابة على دستورية القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي. و قد ارتبطت هذه الرقابة بجوانب متعددة شملت إجراءات إحالة القانون من طرف رئيس الحكومة و المسطرة التشريعية لإقرار هذا القانون، و امتدت إلى موضوعه وفق فحص إجرائي استند، من جهة، على مذكرة “الطعن”. و من جهة أخرى، على الإثارة التلقائية لبعض مقتضياته. و في هذا السياق، يمكن إبداء الملاحظات التالية:
أولا: استند القاضي الدستوري أثناء رقابته على دستورية القانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي على سماه “بالمذكرة بشأن الإحالة”، في حيثيات متعددة من قراره، حيث خصص عنوانا رئيسيا “للمواد المثارة في “المذكرة بشأن الإحالة” المرفقة برسالة الإحالة”. و يرتبط مضمون هذه المذكرة بتحديد المقاصد المبتغاة من رسالة الاحالة. فهي بمثابة وثيقة مكتوبة تدرج في ملف الاحالة، و يتم من خلالها تقديم و عرض الأهداف المتوخاة من الرسالة الموجهة إلى المحكمة الدستورية. إذ تندرج ضمن المذكرات القانونية التي تهدف إما إلى “محاكمة النص” أو “الترافع عنه” عبر تحديد أوجه الدستورية من عدمها في مقتضياته، و ذلك بتوظيف مختلف الحجج و الدلائل القانونية للتأكيد على دفوعات رسالة الاحالة.
إن البحث في مغزى إدراج “المذكرة بشأن الإحالة”، بهذه الصيغة النصية، في متن هذا القرار بالذات دون غيره من القرارات السابقة، يرجع بالأساس إلى تجاوب القاضي الدستوري مع الملاحظات و الاستفسارات التي تقدم بها رئيس الحكومة في مذكرته التقديمية. فعلى الرغم من أن رسالة الإحالة جاءت عامة في شكلها و همت “مطابقة هذا القانون مع الدستور”. إلا أنها أثارت بعض النقاشات القانونية بشأن المسطرة التشريعية لهذا القانون و موضوعه. و هو ما تفاعل معه القاضي الدستوري ايجابا، حيث جعل من هذه المذكرة منطلقا مرجعيا لفحص دستورية مجموعة من المواد، و خصص لها جزءا مهما من رقابته الموضوعية.
و بالموازاة مع ذلك، فقد لجأ القاضي الدستوري إلى الإثارة التلقائية لبعض المواد المدرجة في القانون السالف الذكر، قصد البت في دستوريتها، حيث لامس وجود بعض العيوب الإجرائية و المخالفات الدستورية البينة لمباشرة رقابته الذاتية و التلقائية عليها، حتى في غياب أي طعن موجه ضدها.
ثانيا: أن القاضي الدستوري أسهب في مراقبة صحة الإجراءات التشريعية المعتمدة في إقرار هذا النص القانوني، حيث إتجه نحو التدقيق في مسطرة التداول بين مجلسي البرلمان وفقا لما هو محدد في الفصل 84 من الدستور، من خلال حيثيات متعددة من هذا القرار. و ارتكز على مبدأ المساواة بين المجلسين في حق التعديل، كمبدأ دستوري عام، و أبسط رقابته “الإصطلاحية” على التعديلات التي أدخلها مجلس النواب، عبر منهجية اجتهادية دقيقة إنبنت على قراءات حرفية و اصطلاحية لما تم حذفه و اضافته و استبداله في إطار القراءة الثانية لمشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي من قبل هذا المجلس. و اعتبر القاضي الدستوري أن هذه التعديلات تخالف مقتضيات الفصل من 84 الدستور لعيب إجرائي واضح اعترى قواعد التداول بين المجلسين.
إن القاضي الدستوري، من خلال قراره هذا، اثبت نفسه اجتهاديا كضامن للتوازن الدستوري بين مجلسي البرلمان في مسطرة التشريع، و خصوصا فيما يتعلق بإجراء التداول بينهما، حيث اتجه نحو حماية الحقوق الدستورية لمجلس المستشارين في ذلك، و قلص من الهيمنة الواقعية لمجلس النواب في هذا الجانب. و بالتالي، فهل يعبر هذا التوجه الاجتهادي للمحكمة الدستورية عن حضور قوي لتمثيلية مجلس المستشارين في سير مداولاتها بخصوص هذا الملف المعروض؟ أم أن تكليف العضو المقرر من بين الأعضاء المنتخبين عن هذا المجلس ساهم في الحد من تجاوزات مجلس النواب على هذا المستوى؟
و هي المرة الأولى التي يقضي فيها القاضي الدستوري بعدم الدستورية لعيب إجرائي في مجال الرقابة على دستورية القوانين العادية، بعدما سبق له حالات أخرى أن قضى بدستورية المسطرة التشريعية لبعض القوانين كما هو الشأن في قرار المجلس الدستوري رقم 16.1015.
ثالثا: أن المحكمة الدستورية انتصبت كجهاز قضائي ضامن للتوازن المؤسساتي و “راسم” للحدود الدستورية بين السلط، ليس فقط بين السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية و لكن أيضا بين السلطة التنفيذية و السلطة القضائية، حيث شكل مفهوم “الإدارة القضائية” نقطة تماس جوهرية بين هذين الجهازين و محط التباس قانوني في صياغة مقتضيات القانون السالف الذكر، و هو ما جعل القاضي الدستوري يبدي تفسيرات و تأويلات اجتهادية خاصة في إطار هذه النقطة المحورية.
إنطلق التفسير الاجتهادي الذي منحه القاضي الدستوري للإدارة القضائية من محدد دستوري عام انبنى على الفصل 89، الذي جعل من الإدارة، بمعناها العام، موضوعة رهن تصرف الحكومة، و ميزها القاضي في اجتهاده بخصوصيات متعددة لكونها موسومة بالطبيعة القضائية. و انطلاقا من هذا المنحى الدستوري و الاجتهادي، ستعمل المحكمة الدستورية على الموازنة بين حدود تدخل السلطة الحكومية المكلفة بالعدل في هذا المجال و نطاق اشراف المسؤولين القضائيين بالمحاكم على هذه الإدارة، و بالتحديد في بعض المجالات الالتقائية بين السلطتين.
1- شكلت مؤسسة الكاتب العام للمحكمة أحد التجليات البارزة لتشابك حدود الادارة القضائية بين السلطتين، حيث أوجد القاضي الدستوري اجتهادا توفيقيا يراعي مجالي الالتقائية و “الافتراق” بينهما ، و ذلك من خلال تحديد نطاق تدخل كل من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل، من جهة، و المسؤولين القضائيين عن المحاكم من جهة أخرى.
إذ سيبدي القاضي الدستوري بخصوص مؤسسة الكاتب العام للمحكمة صرامة اجتهادية في تحديد نوعية تبعيتها، حيث سيميز بين الجوانب الإدارية و المالية في اختصاص هذه المؤسسة، و الاختصاصات القضائية الصرفة التي تتجسد من خلال التبعية المباشرة لكتابة الضبط لها. إذ ستعد هذه الكتابة ذات الطبيعة القضائية محور تدخل القاضي الدستوري في إبعاد الكاتب العام عن تبعيته “القضائية” لوزارة العدل، و سيعتبر أن ” تخويل الكاتب العام، الموضوع تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل، أداء مهام كتابة الضبط المندرجة في الشأن القضائي، دون إخضاعه لسلطة ومراقبة المسؤول القضائي خلال مزاولة تلك المهام، مخالف للدستور.”
كما سيعمل، بالموازاة مع ذلك، على الحد من الصفة التقريرية للكاتب العام في مكتب المحكمة، لارتباطه الاداري بالوزير المكلف بالعدل، حيث سيجعل من الطبيعة القضائية لهذه البنية الإدارية الجديدة الأساس الاجتهادي لإبعاد عضويته التقريرية.
2- اذا كانت هيئة كتابة الضبط قد شكلت منطلقا أساسيا للحكم بتبعية مؤسسة الكاتب العام لجهاز السلطة القضائية، فإن القاضي الدستوري سيتجه في إطار إحداث نوع من “التقسيم” التنظيمي و الوظيفي على مستوى هذه الهيئة، بخلاف المادة 19 من قانون التنظيم القضائي التي ستجعلها “هيئة واحدة على صعيد كل محكمة”، حيث سيعمل على إبراز الخصوصيات الوظيفية الأساسية ل”كتابة الضبط لدى النيابة العامة” و موقعها المحوري في الادارة القضائية للمحكمة، و سيخلص إلى أن “عدم مراعاة طبيعة عمل كتابة النيابة العامة، في تنظيم كتابة الضبط في هيئة واحدة، مخالفا للدستور”.
3- حضرت المفتشية العامة لوزارة العدل ضمن المجالات الالتقائية لثنائية الاداري/ المالي و القضائي في تجسيد استقلالية السلطة القضائية، حيث سيتجه القاضي الدستوري إلى إحداث نوع من الفصل الاجتهادي بينهما، إذ سينحصر اختصاصها التفتيشي على المجالات الإدارية و المالية للإدارة القضائية وفق إجراءات تقييدية ترتهن لضوابط اشراف المسؤولين القضائين، مع إبتعادها عن جميع الأنشطة و الاعمال ذات الطبيعة القضائية. أما “التفتيش” القضائي فسيناط بالمفتشية العامة للشؤون القضائية.
4- اتجه قضاة المحكمة الدستورية نحو الحد من القيود الإجرائية لانعقاد الجمعية العامة للمحكمة التي حددتها المواد 32 (الفقرة الأخيرة) و35 و96 (الفقرة الرابعة)، حيث استند على مجموعة من الغايات الدستورية من قبيل ضمان الحق في التقاضي و استمرارية خدمات مرفق العدالة لتبرير هذا “الاجراء” الاجتهادي. و اعتبر أن حصر المساطر الإجرائية لانعقاد هذا الجمع دون استحضار البدائل القانونية في مقتضيات هذا القانون يعد مخالفة دستورية تستوجب الحكم بعدم دستوريتها.
رابعا: يستخلص من خلال هذه التقابلات الاجتهادية التي برزت في قرار المحكمة الدستورية أن “الإدارية القضائية” شكلت نقطة تماس جوهرية في العلاقة بين السلطة التنفيذية و السلطة القضائية، حيث حاول القاضي الدستوري أن يرسم حدود التقائيتها و “تباعدها”، و ذلك عبر تدقيق اجتهادي خاص ارتهن في أحيان عدة إلى ضبط التقابلات الإصطلاحية بين هذين المجالين من خلال مصطلحات تكررت في متن قراراته من قبيل الاشراف و المسؤولية و السلطة .
إلا أنه ما يسجل في هذا السياق، أن المحكمة الدستورية إنحازت نحو حماية تنزيل الاستقلالية الدستورية للسلطة القضائية، بتشعباتها المختلفة، من خلال حضور هاجس هذه الاستقلالية في حيثيات متعددة من هذا القرار، إلى الحد الذي جعل القاضي الدستوري يلجأ، في بعض الحالات، إلى مطابقة مقتضيات القانون السالف الذكر، مع هذا المبدأ أكثر من مطابقته للدستور، حيث وظف العبارات التالية: “ليس فيه ما يمس باستقلالية السلطة القضائية”، “احتراما لمبدإ استقلال السلطة القضائية”، “وهو ما يشكل مسا باستقلال السلطة القضائية”، “يعد مخالفا لمبدإ فصل السلط ولاستقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية” و “مراعاة لاستقلالية السلطة القضائية”…
كما استطاع القاضي الدستوري، من خلال هذا العمل القضائي، أن يساير النقاش القبلي الذي حضر في تحضير مسودة و مشروع هذا القانون، بمنهجية دستورية متعددة استخدمت في بعض الحالات تأويلات ضيقة عبر منهج المطابقة “الصلبة” للدستور، و في حالات أخرى منهج المخالفة لفتح المجال الاجتهادي نحو تفسيرات دستورية واسعة تساير غايات الدستور و مقاصده.
خامسا: بعد إبداء المحكمة الدستورية لتوجهاتها الاجتهادية بخصوص حدود العلاقة بين السلطة التنفيذية و السلطة القضائية، سينتقل القاضي الدستوري إلى مناقشة مظاهر استقلالية السلطة القضائية من داخل “الجهاز القضائي”، حيث سيتجه القاضي، من جهة، إلى إحداث نوع من التخصص القضائي في التعيين لوظائف المسؤولية القضائية. إذ سيبعد وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية و الوكيل العام لمحكمة الاستئناف عن تعيين ممثليهم في المحاكم الابتدائية التجارية و محاكم الاستئناف التجارية، بالنظر لاستقلالية هذه المحاكم و تخصصها.
أما من جهة ثانية، فسيتجه القاضي الدستوري نحو إبعاد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية عن تعيين قضاة الأسرة المكلفين بالزواج و القضاة المكلفون بالتوثيق و القضاة المكلفون بشؤون القاصرين و القضاة المكلفون بالتحقيق و قضاة الاحداث و قضاة تطبيق العقوبات بالمحكمة الابتدائية و كذا المستشارون و المكلفون بالاحداث و القضاة المكلفون بالتحقيق بمحكمة الاستئناف. و سيجعل تعييناتهم تتعلق أساسا بسلطة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، كمؤسسة، لما توفره مختلف المساطر المتخذة ضمن أشغالها من ضمانات أساسية في حماية استقلالية القضاة المعينين. و بالتالي يتضح أن مجالات تدخل القاضي الدستوري لن تقف عند حدود حماية استقلالية السلطة القضائية في علاقتها الخارجية، بل امتدت لتشمل مظاهر الاستقلالية الداخلية لهذا الجهاز.
سادسا: لجأ القاضي الدستوري في هذا القرار إلى تقنيات قضائية متعددة إما للحكم بدستورية بعض المقتضيات القانونية أو بعدم دستوريتها، حيث وظف تقنية الاغفال التشريعي أثناء رقابته على دستورية المواد 32 (الفقرة الاخيرة) و 35 و 96 (الفقرة الرابعة)، عندما تناسى أو أغفل المشرع التنصيص على الإجراءات المتخذة في حالة عدم توفر النصاب القانوني لانعقاد الجمعية العامة للمحكمة للمصادقة على مشروع برنامج العمل. إذ سيعمل القاضي الدستوري على مقابلة هذا الاجراء المسطري الذي حملته المقتضيات القانونية السابقة، من جهة، بمبدأ ذو قيمة دستورية سيتمثل في ضمان استمرارية مرفق العدالة. و من جهة أخرى، بحق دستوري أساسي هو الحق في التقاضي. و سيستنتج من خلال هذا الترابط الاجرائي بين إغفال التنصيص على البدائل القانونية المستتبعة لذلك و بين ضمان المصلحة العامة و حقوق الافراد أوجه التغييب التشريعي في المقتضيات القانونية السالفة الذكر. و سيعتبر ذلك بمثابة “تقصير” تشريعي جوهري يستوجب الحكم بعدم دستوريته.
كما ستبرز أوجه الاغفال التشريعي من خلال مراقبته أيضا لدستورية المادة 52 من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي، حيث ستفتقر هذه المادة إلى متقضيات تحدد تركيبة مكتب المساعدة الاجتماعية الذي سيتم إحداثه بالمحاكم الابتدائية و محاكم الاستئناف و كيفيات تأليفه. و سيتوقف القاضي الدستوري عن النظر في هذه المادة، على حالها، بالنظر “لعدم وضوح النص أو عدم تناسق مقتضياته… أو عدم اكتمال التشريع الذي يتوقف عليه اعماله…”.
سابعا: جاء منطوق قرار المحكمة الدستورية متسقا مع بناءاته و متنه، حيث تضمن تقسيما ثلاثيا، خصص الجزء الأول منه للبت في إجراءات اعتماد القانون، و قضى بعدم دستورية 7 مواد على هذا الأساس. أما الجزء الثاني، فارتبط بموضوع هذا القانون، و حكم بعدم المطابقة الجزئية لعشرة مواد منه، و عدم المطابقة الكلية لخمسة مواد. كما اعتبر أن المادتين 102 و 109 تكتسي طابعا تنظيميا دون أن يدرجهما ضمن المقتضيات المخالفة للدستور، مع مراعاة التفسيرات المقدمة بشأنهما، و كذا ثلاث مواد أخرى أبدى بشأنها “دستورية” مشروطة. أما الجزء الثالث منه، فخصص للاجراءات القانونية التي تستتبع استصدار قرار المحكمة الدستورية.
إلا ما يثير الإنتباه في منطوق هذا القرار، هو حكم القاضي الدستوري بالصبغة التنظيمية للمادتين 102 و 109 من القانون السالف الذكر، في إطار رقابته على الدستورية و ليس في نطاق “التجريد التشريعي”. إذ يتبين من خلال الاطلاع على السوابق الاجتهادية للمجلس الدستوري في هذا المجال، أنه سبق له في القرار رقم 125.97 أن قضى بالصبغة التنظيمية لبعض أحكام القانون التنظيمي رقم 97-32 المتعلق بمجلس المستشارين. إلا أن الوزير الأول سيلجأ بعد ذلك إلى المجلس الدستوري قصد تغيير نفس الأحكام في إطار مسطرة التجريد التشريعي، و سيقضي المجلس في قراره رقم 408.2000 برفض الطلب مراعاة لحجية قراراته في هذا الشأن.
محمد نويري المرجع: منتدى القضاء الدستوري المغربي و المقارن.